اعرف داءك أولا
بسم الله الرحمن الرحيم
\" اعرف داءك أولا ... \"
عماري جمال الدين
لكل عصر أمراضه ، وأمراض عصرنا لا تعد ولا تحصى، وقد اكتفيت بذكر بعضهاعلى سبيل الحصر. ولست مبالغا ولا متشائما، فالأمل من الإيمان والتفاؤل من شيم أهل الإسلام، والأمة والدين والحياة بخير إن شاء الله وتتجه نحو الخير. والمستقبل لهذا الدين كما قال سيد قطب رحمه الله. نعم هذا ما نشعر به وهو من صميم عقيدتنا. ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم. أما ونحن بصدد تشخيص واقع الإنسان المسلم المعاصر ورصد الإيجابيات والسلبيات التي يفرزها الحراك الفردي والاجتماعي، والوقوف على الرصيد المنجز، بغية تحسينه وتطويره. فإنه لابد من الموضوعية في الطرح والتحليل والاستنتاج للوقوف على مكمن الداء، ووضع اليد على موضع الجرح لمداواته وعلاجه إن شاء الله. وبالتالي لابد من المصارحة لوضع النقاط على الحروف. يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه:\" تأملات في الدين والحياة\" \"...ومن يغلغل النظر في علل هذه الأمة يجدها تتنفس في جو فكري خانق، وأن تغذيتها الروحية والفكرية والنفسية رديئة أشد الرداءة.\" إذا فالعلل والأمراض موجودة ومنتشرة هنا وهناك، والعيب فينا لما نغفل أو نتغافل عن الحديث عنها. فمن لا يعرف الشر يقع فيه. لذلك قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم. \" كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني...\" فدرأ المفاسد أولى من جلب المصالح، كما ورد في القاعدة الفقهية. وقد بقيت كثير من مشاكلنا معلقة دون حل، لأننا نبحث في الظواهر والنتائج ونترك الأسباب. وعليه أحسب أن انتشار كثير من الأمراض والأدواء والآفات مرده إلى ضعف جانب التزكية النفسية والتربية الروحية بصفة عامة. ولعل ضعف التزكية في عصرنا كان أكثر منه في أي عصر مضى. لذلك اقتضى أن نطرق مثل هذه المواضيع بكثرة وبدقة علنا ننال شرف الإسهام في إعادة بعث وإحياء نهضة الأمة لاستئناف مسيرتها الحضارية.
لايختلف اثنان في أن من الأهداف الكبرى لشريعة الإسلام، ومن المقاصد الأولى لبعثة النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، تزكية النفوس وتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق .قال تعالى: \" هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ...\" من سورة الجمعة . وقال صلى الله عليه وسلم:\" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.\" فالتربية والتعليم والتذكير والتزكية من أهم مهمات الرسل عليهم الصلاة والسلام. بل عليها مدار النجاة والهلاك عند الله عز وجل، قال تعالى في محكم التنزيل: \"ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها.\" من سور الشمس. كل ذلك من أجل الارتقاء بالإنسان إلى مستوى الإيجابية، إن على مستوى التصورات والأفكار والمشاعر أو المواقف والعلاقات والأفعال. يعبر عن هذا النضج والمستوى الراقي من الخيرية والإيجابية التي ينبغي أن يتحلى بها كل كسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: \" المسلم كالغيث، أينما وقع نفع.\"
والتزكية جانب من جوانب الدين يعتني بإصلاح الإنسان بتطهير عقله وقلبه وجسده، وبيئته ومحيطه، تشمل طهارة اعتقاداته وأفكاره ونياته وعباداته ومعاملاته وأخلاقه، وترقية الإنسان في الخير تشمل تلك الجوانب كلها، فتشمل ترقية العمل والقول والظاهر والباطن. فعصرنا عصر الخواء الروحي وطغيان الماديات وتغلب الشهوات، على حساب القيم والمباديء والأخلاق. نحن في زمن قل فيه من يضبط نفسه على مقتضى آداب الإسلام، وأخلاقه الفاضلة. إذا فالتربية الإيمانية الروحية ضرورة وحتمية لازمة لإصلاح الحال. فالتزكية هي: فن صناعة القلب، كي يحس، كي يفهم، كي يشعر، كي يتفاعل، كي يستجيب لنداء الوحي. وإن شئت فاقرأ معي مرة بل مرات ما قاله أحد أطباء القلوب بشأن هذه المضغة. قال ابن القيم- رحمه الله- في كتابه مدارج السالكين (2/333) \" ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات، لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها، لم تسد تلك الفاقة منه أبدا. \"